السبت، 22 مارس 2025

قطر العروبة

 عندما كنت في الصف الأول والثاني في مدرسة الريان القديم كانت الجزائر وفلسطين هما قضيتا العرب الكبرى؛ نستعرضهما كل صباح في الطابور بعد تحية العلم، وكانت كلمة الصباح وصفاً لحال الأمة العربية، وإشارةً لإرادتها وتماسكها في أغلب الأحيان، وكان في مقابل الطابور في «ليوان» المدرسة رسم بارز بعض الشيء لـ»بن غوريون» رئيس وزراء إسرائيل في تلك الحقبة مخنوقاً بحبل مشنقة، ومن خلفه خريطة فلسطين الحبيبة.

بعد الانتهاء من كلمة الصباح التي كانت تُعد بأهمية حضور الدروس وربما أكثر حيث يستمر الطابور ويأخذ وقتاً كافياً تكون   كل حيثياته وتفاصيله  قد وصلت الى  المنطقة المحيطة بالمدرسة.من خلال استخدام المايكروفون
يأتي دور التفتيش على اليدين ونظافتهما والأظافر وتقليمها، فيبدأ مربي كل فصل بالمرور على طلبته كاستعراض حرس الشرف يراقب وقوفهم، وانتظامهم ونظافة أيديهم، ويتوقف عند المقصر أو المتكاسل منبهاً ومحذراً بعدم قبوله في الصف إذا تكرر منه ذلك مستقبلا.
ثم يبدأ بعد انصراف الطلبة إلى صفوفهم اليوم الدراسي بالحصة الأولى، وكانت ست حصص يوميا ما عدا يوم الخميس حيث كانت خمس حصص فقط.
كان معظم مدرسي تلك الحقبة في قطر من الإخوة المصريين والإخوة الفلسطينيين، أما الطلبة فجلهم قطريون ومع الوقت التحق بمدرستنا بعض الإخوة من البحرين الذين نزحوا إلى قطر وسكنوا الريان أو غزة القريبة منه والتي هي اليوم مدينة خليفة الغربية في الغالب.
على كل حال، كانت المدرسة تقدم لنا غذاءً تربوياً متكاملاً وليس فقط دروساً في المنهج المدرسي، فهناك مسرحيات وهناك تفاعل مع الوضع العربي بشكل أشعرنا كطلبة بأننا نعيش العالم العربي كله بين جنباتنا ونحمل الهم الكبير من المحيط إلى الخليج ضمن حقائبنا التي نحملها على ظهورنا متجهين إلى مدارسنا.
 
وفي أحد الأيام وكنت في الصف الثالث الابتدائي وقبل طابور الصباح فوجئت بتظاهرة تخرج من المدرسة يقودها الطلبة الأكبر سناً منا في الصفوف الخامس والسادس تتقدمهم صور الزعيم الراحل جمال عبد الناصر متجهين نحو شارع الريان القديم العام   بعد أن أشاروا لمن هم في سني بالذهاب إلى البيت.
 
كانت المدرسة في حينه جزءا من النظام العربي ومن وعي الإنسان العربي بذاته وبحقوقه، كما كانت تقوم بدور اجتماعي واقتصادي مهم وخطير، فعن طريقها كان الطلبة يتلقون المساعدات من كسوة سنوية كاملة صيفا وشتاء بالإضافة إلى رواتب شهرية بالإضافة كذلك إلى تغذية يومية متمثلة في توفير الألبان للطلبة بعد الحصة الثالثة وقبل الفسحة الرسمية بين الحصص.
نجحت الدولة في ترسيخ مفهوم العلم كقيمة في حد ذاته في ذلك الوقت،  
كانت المدرسة «عربية» في منهجها في هويتها في أدق تفاصيلها   كان البحث عن نوعية تعليم تتفق وثقافة المجتمع فلما تيقنوا من ذلك أسقط المجتمع  جميع العوائق الذهنية التي كانت تعيش في أذهان افراده.
وانخرط الجميع في عملية تعليمية شمولية رائدة في وقتها.

مجتمعنا الجميل

 



على الرغم من عملية التحديث النشطه في مجتمعنا القطري وتبعاتها الاجتماعيه , لاتزال الشخصيه القطريه الاصيله محافظه على جمال الروح الذي جُبلت عليه , نعم أصبح المجتمع يدفع تكلفة إجتماعيه أكبر من ذي قبل نتيجة طبيعية للتغير والتطور في طبيعة المجتمع وفي دور الدولة كذلك عما كان في السابق. هناك بقايا طيبة من الآباء تدرك الابناء وتصلهم بتراثهم الاجتماعي التوافقي, كثير من الشباب الذين نتعامل معهم يوميا , لانعرفهم شخصيا ولكن نعرف آباؤهم أو أقراباؤهم الاكبر سنا الراحلون منهم أوالذين لايزالون على قيد الحياة, فتشعر بحرارة العلاقة القديمه وقد تجددت مع هذا النشء الصغير, وكأنك تعيش عصر والده الذي عاصرته.تميز المجتمع القطري عن غيره من المجتمعات الخليجيه بوجود المجالس ذات الطابع الاجتماعي بالذات بعيدا عن السياسيه أو الايديولوجيا, مجالس تقوم على تنقية السلوك الاجتماعي للأبناء بشكل يجعل من التوافق سبيلا وخيارا متاحا لجميع أفراد المجتمع, أنا أعتقد أننا أمام تحد كبير للإحتفاظ بجمالية مجتمعنا القطري المتمثله في علاقاته مع بعض البعض , حيث لم يعد ظاهرا منها اليوم سوى الالتقاء في مناسبات الزواج ومناسبات العزاء , حيث تجد حضورا كبيرا وشوقا متلهف للقاء وكأننا نعيش في مجتمع تفصله مساحات هائله عن بعضه البعض. المهم أن لايشعر المجتمع بالغربة عن ذاته, ميكانزمات التواصل الاجتماعي لم تعد متوفره بالشكل السابق الذي يخلق روحا حميمية نتيجة التواصل اليومي , لذلك قيمة جيلنا الحالي في نقل ذلك ولو شفاهة الى النشء الجديد الذي ابصر النور مع بداية التحولات التي أتت على طبيعة المجتمع الماديه التي تشكل ذاكرة هامه للبعد المعنوي لأفراد المجتمع, لايزال المجتمع القطري جميلا بأفراده , لايزال جميلا بمجالسه , لايزال جميلا بطيبة أهله , لايزال جميلا بعلاقاته التي يمكن أن يقيمها ببساطة بمجرد استذكار الماضي المشترك. روح المجتمع الساريه حتى الآن يجب المحافظة عليها , كنت في زيارة أخ عزيز بمناسبة زواج أحد أبناءه , وجدت المجتمع عنده, مباركا وفرحا, وفي مناسبة حزينة لصديق آخر , عزيته , وجدت المجتمع عنده معزيا وحزينا. هذا هو المجتمع القطري الجميل , وهذه هي روحه الساريه عبر الزمن, اللهم أحفظ حاضرنا كما حفظت ماضينا ويسر لنا مستقبلنا بدعاء الضعيف منا.

  

  

الجمعة، 21 مارس 2025

قطر مجتمع " الإنسان"

 التطورات السريعة التي تمر بها البلاد خاصة على الصعيد المادي ودخول المادة كعامل أساسي في رسم العلاقات وأهميتها تنقل هذا المجتمع الصغير من مرحلة نفسية متميزة كانت صفة من صفاته وعنواناً لتفرده وتميزه عن غيره من المجتمعات التي رسمت فيها المادة قيماً جديدة، وبدلت الحال إلى أحوال جديدة، بحيث لم تعد مركزية العامل الإنساني هي المحرك للعلاقات، وبالتالي شكت ولا تزال تشكو تلك المجتمعات من ذلك عندما كانت المادة تشكل هامشاً حياتياً فقط للإنسان ولم تنل بعد من ذاته لتستقر بديلاً عنها. مجتمعنا الصغير يدخل إلى مرحلة جديدة بؤرتها المادة ونقطة الامتصاص فيها المال، فبالتالي يجب التنبه إلى أن قوة مجتمعنا القطري هي في تلاحمه مع بعضه البعض بعيداً عن أي عوامل أخرى غير إنسانية. كانت ثمة مادة لدى الكثير في الماضي ولكنها لم تستقر لتشكل العلاقات والدرجات والتراتيب الاجتماعية لوعي أصحابها (أي المادة) في ذلك الوقت بأن البعد الإنساني هو الأغلى وهي ما يعول عليه، لقد تنبه علماء مدرسة فرانكفورت النقدية لهذه المخاطر في مجتمعاتهم الأوروبية ودافعوا كثيراً عن مركزية الإنسان في الكون، بعيداً عن حمى الرأسماليـة الزاحفة حتى خشي «ماركوز» من تحول الإنسان إلى إنسان ذي بُعد واحد تحركه المادة وينجذب إليها، على كل حال لا يزال هناك كثير من الخير والأمل في مجتمعاتنا الخليجية ولا يزال هناك من يعي بأهمية الإنسان ومركزيته كإنسان بعيداً عن شوائب المادة، ولكنه لا يجب إغفال حقيقة هامة وهي أننا ندخل عملية تطور سريعة لم يسبق أن خبرناها في سرعتها وفي حجمها، ولابد أن تحدث تغيرات في شكل العلاقات وبنائها مما قد يكون له تداعيات سلبية. نحن بحاجة إلى التمسك بأنسنة العلاقات الاجتماعية ولا نجعل شيئاً آخر يطغى على هذه الأنسنة لتبقى قطر وهي في طريقها النهضوي ورغم اتجاهها السريع في طريق التحديث «قطر الرجال الأولين بحق».

اذا كانت عملية «الانسنة» للعلاقات تتم في السابق بشكل عفوي فإنها اليوم على ما أعتقد في حاجة إلى عملية استحضار دائم لكيلا تغشى غمامة المادة على إنسانية الروح ومحوريتها في هذه الدنيا الذاهبة.