لعل البعض يتذكر نصائح الرئيس مبارك للرئيس صدام اثناء أزمة الخليج الاولى وماأكثرها .نصحه بأن يرحم العراق أولا ويستقيل و أن يرحل الى أى بلد عربى ويخرج الامة والشعب العربى من محنته وإنشقاقه. اليوم المشهد أمام مبارك أوضح كثيرا للإقتداء بنصيحته "وبحكمته" حينئذ. الوضع اليوم يتطلب منه أن يرحم شعبه وأمته وأن يرحل , فالوضع مصرى التشكل والابعاد , وطنى الشعور والاحساس , منبعه من الداخل والداخل فقط. إنه موقف الشعب بعيدا عن اى تأثير خارجى فلذلك فيه من درجة الاختلاف الكثير مقارنة بما فعله صدام وإستوجب نصيحة مبارك له بالاستقاله والرحيل. هنا يتضح شكل آخر من ممارسات السلطه العربيه وهو شكل تاريخى وثقافى لم يتوقف. يجزىء فى المواقف وينتقى فى الاوضاع ويجعل من الحقيقه ذات وجهين , مطلق بالنسبة للاخر "خطأ أم صواب" ونسبى بالنسبة للذات. مثل هذا الموقف "الزئبقى" نفاق اسود يتطلب إعادة فى دراسة تاريخ الامه وتراثها. ولى أن ابدى بعض الملاحظات هنا:
أولا: الاستبداد مرتبط تماما بثقافته ا لزئبقيه التى تقوم على النفاق والعاطفه بعيدا عن تحمل المسؤوليه وتحديد المواقف ومحاباة الذات وعدم مراعاة الاخر . يتحول فى مراحل الضعف الى عاطفه واستجداء كخطاب مبارك الاخير ولعل البعض قرأ أو يتذكر ما حصل فى رومانيا منذ عقدين قبل ازاحت تشاوشيسكو ومقتله وزوجته بعد ذلك حين نادت زوجته احد الجنود الذى يمسكها يدها بقوه قائلة له "اترك يدى أنا أُمك".
ثانيا: فقدان المرجعيه الثقافيه والاخلاقيه للسلطه اخطر كثيرا من فقدانها حتى للشرعيه الدستوريه ذاتها فلذلك كانت المناداة لدى البعض عبر التاريخ بأنه لايصلح حال الامه سوى "مستبد عادل" جرى التركيز فى هذه العباره على البعد الاخلاقى بعيدا عن مصدر الشرعيه لاهميه تلازم الامرين معا ولكن فى حالة فقدان البعد الاخلاقى الثقافى , تصبح الشرعيه ناقصه وتتحول الى زئبقيه ما ينطبق على الاخر لاينطبق على" كم شهدنا فى نصيحة مبارك لصدام والتى يحتاجها هو نفسه اليوم اكثر من اى فرد او اى وقت آخر "ولكننى أنا غير" هذا هو منطق الموقف الزئبقى
ثالثا: الارضيه التى تتحرك عليها السلطه الزئبقيه التى ترى نفسها استثناء دائما هى الارضيه "المافياويه" المستفيده من الوضع حيث تشكل هذه الارضيه دعما مستمرا لها ومبررا دائما لاخلاقياتها واستثناءاتها , واليوم نشهد ذلك عيانا فى الجوقه الجديده من هؤلاء يبررون ما لايمكن تبريره محاولة منهم للالتفات على حركة الشارع المصرى وحراكه.
رابعا: تعمل السلطه الزئبقيه على انشاء الدوله الرخوه التى تصدر القوانين ولا تطبقها فى حين تقوم المافياويات المصاحبه المستفيده بالالتفاف عليها فتقل قبضة النظام القانونى ويصبح شكلا لا جوهرا وإذا وصل الامر الى الجيش فقد يلتحم مع السلطه فى مواجهة الشعب المعزول بمعنى أنه قد يتحول هو الاخر الى مافيا مستفيده من الوضع فيشيع الفساد .
خامسا: السلطه الزئبقيه لاتريد أن تخرج فلذلك يصبح التوريث هو السبيل الاوحد ورأينا حمى التوريث يجتاح الجميع وينتج نسخا مكرره معدله تحاول تجميل الصوره فيأتى الابن لإصلاح ما أفسده الاب على حساب الشعب مصدر السلطات. حتى فى احلك الساعات وتجهم الموقف الشعبى بشكل مباشر مشيرا بإصبع واحده تقول أخرج " يأتى جواب السلطه "هم رايحين فين" بمعنى الشعب رايح فين.
سادسا: تستهين هذه السلطه بالشعب مع مرور الوقت ومع تكون المافياويات المحيطه بها تشعر بالأمن والاستقرار فلا تعد تحس بالشعب ولا بأوجاعه وهنا يبدأ العد التنازلى لها مع الوقت , ويذكر الدكتور جلال أمين أنه بعد الانتخابات التشريعيه المزوره الاخيره فى مصر حاول بعض الوطنين إنشاء برلمان بديل لهم فلما وصل الامر الى الرئيس قال "خليهم يتسلوا" هذه صوره واضحه لإنفصام السلطه بمن حولها عن الشعب.
سابعا: لقد كان مبارك أكثر الناصحين لصدام والمكررين له بالانسحاب والتراجع عن الخطأ حيث يعد ذلك ايجابيا وأذكر بأننا كنا نستمع الى ذلك بشكل شبه يومى حيث كان ونظامه يمثلون الناصح الاكبر من أجل العراق ومن أجل الأمه ومن أجل حقن دماء المسلمين. ولكن التاريخ يحصره اليوم فى زاوية نصائحه وكأنه يكشف النوايا وما تخبىء الصدور بأمر ربانى ليميز الصادق من المأجور.
الآن:اذا لم تنتهز شعوب الامه الفرصه السانحه اليوم لفرز ثقافتها بشكل انسانى وعصرى واستمرأت الخطاب التاريخى السمج الذى يبرر القدريه والخيريه والانتقائيه والاسطفائيه تحت أى مسميات فإن القادم اسوأ لأن انكشافنا الاخلاقى اليوم أمام العالم والذى يمثله نظام مبارك حيث تتكسر الاراده الشعبيه أمام إصرار السلطه المتلونه التى تقذف بالقرابين واحدا بعد الاخر لكى تتلون وتعود من جديد فى موقف أنكره العالم . شعب يطالب ورئيس يماطل ويرفض بعد ثلاثون عاما من ا لحكم لمطلق الاستفزازى ولكنها تمر على الظالم كلمح البصرفى حين يبدو يوم ا لحساب بالنسبة له كألف سنة مما تعدون.