السبت، 10 مايو 2025

إسلام السوق

 "إسلام السوق" كتاب للمفكر الفرنسي باتريك هايني ويعكس تحولات التدين الاسلامي المعاصر خصوصاً في سياق هيمنة ثقافة السوق وصعوده كمنظومة "قيم" في سياق السياسات  النيوبراليه  في  عالمنا المعاصر., هو هنا لايتحدث عن الدين الاسلامي كعقيدة وانما عن أنماط التدين  الجديدة في ظل كل هذه التحولات الاقتصادية والسياسة والاجتماعية التي تعصف  بالعالم اليوم وتنعكس اثارها على جميع اوجه الحياة ..

"إسلام السوق"  هو نمط في اعتقاده  نمط من التدين  يتكيف مع آليات السوق وقيم  هذا التكيف  ومنها النجاح الفردي, الربح , ريادة الاعمال, الاستهلاك, الحرية الفردية بمعنى أن الدين لم يعد هوية جماعية أو مشروع سياسي  كما كان إن الاسلاميين التقليديين  بل أصبح خياراً فردياً. بل أن العديد من الوعاظ الاسلاميين من دعويين عقديين الى  الى شخصيات "تسويقية" تروج لقيم النجاح والتنمية الذاتية  وتقدم الاسلام كمنج "روحي" يناسب السوق, فالمسلم اليوم  يصوم ويصلي  ويعمل وينجح  ويؤسس مشروعاً تجارياً حلالاً و دون الانخراط  في مشروع اسلامي شامل أو ثوري, ومن هنا  إستطاع بعض هؤلاء " أسلمة" الرأسمالية نفسها مثل "الصيرفة الاسلامية والمنتجات الحلال والموضة الاسلامية , ولباس البحر الاسلامي  وهذه كلها جزء من النظام الاقتصادي  العالمي, وجاء كل هذا  بعد تراجع الاسلام السياسي واستبداله بتدين  ينسجم مع واقع   من أجل تغييره.

"إسلام السوق"  لايدعوا الى الثورات بل يركز على النجاح الفردي  أكثر من مفهوم العدالة الاجتماعية وعلى إصلاح النفس  كطريق لتغيير العالم. وهذا النوع من التدين في إعتقادي  جزء من التحول  النيوليبرالي للمجتمعات العربية, وقد نشهد تحولات  جديدة , طالما نحن من يتأثر وليس من يؤثر.

الأربعاء، 7 مايو 2025

العيش في التراث أم تجاوزه؟

   

 
اعترف نصر حامد أبوزيد أنه ينقد تراثنا من داخله، في حين اتجه به عابد الجابري غرباً بشكل أقل حديةً محاولة منه للاستفادة من حفريات فوكو ومدرسة الحوليات التاريخية. في حين استخدم أركون مناهج النقد والبحث الغربية وحاول تطبيقها عليه، لوحاولنا ترتيب الثلاثة قرباً أو بعداً من التراث من خلال دراساتهم فسيأتي أبوزيد ومدرسة المعتزلة التأويلية ومجازية الجرجاني في المقدمة وبعدها الجابري ومزجه وأخيراً أركون والسيميائية والفلولوجية وما طبقه من ألسنيات على النصوص.
ما أريد الإشارة إليه هنا ليس تلك الفروق بين باحث وآخر أو تكفير أحد دون غيره كما نشاهد اليوم فطالب العلم لا يكفر ومن رزايا الأمة اتباعها لأقصر المناهج لوأد العقل باسم الخوف على العقل وباسم الخوف من الفتنة.
ما يحسب لهؤلاء الباحثين هو تضحيتهم وصبرهم ومكابدتهم وانعكافهم على البحث وانشغالهم بأمور أمتهم حتى آخر رمق من حياتهم.
وكم كابد أبوزيد وكم شتم أركون وكم انتقد الجابري بل كم كفروا وأخرجوا من الملة وهم أحياء يرزقون.
إن ثقل التراث العربي والإسلامي وتماسكه ونقله من جيل إلى جيل جعل من محاوله دراسته وتفكيكه أمراً شبه مستحيل ومن يقوم به يعد منتحراً قبل يومه في حين يرفل ناقليه إلينا يوميا بغثه وسمينه في بحبوحة من العيش ورغد ما عليهم سوى ترديده واجتراره.
سطوة الجانب الاجتماعي كانت كبيرة على من يحاول الفرز وإعمال العقل وأساليب البحث والتقصي الحديثة كالتي استعملها أركون والجابري وحتى تلك التي استعملها أبوزيد وهي من داخل التراث الإسلامي إلا أنها وئدت مبكراً وتسلط التقليد بعد إحراق فكر ابن رشد وكتبه.
ما ألاحظه هنا وأتساءل عنه هو: هل عاد من عاد من هؤلاء المفكرين إلى التراث حاكماً لا بديل عنه ومحاولة التصالح معه اقتناعاً منهم أو مجاراة لمرحلة عمرية بدأت بالتمرد ومن ثم بالانصياع كالشمس عند غروبها تخفت أشعتها. من هؤلاء المفكرين طه حسين صاحب الشعر الجاهلي ومحمد حسين هيكل ودعوته للتغريب وزكى نجيب محمود وخرافة الفكر الميتافيزيقي والمسيري كذلك ومن الأحياء محمد عماره ماركسي البداية وغيره، كلهم عادوا إلى حظيرة التراث واستكانوا بعد ثورة. لعل العديد منهم تعاضد السن والمجتمع على إيوائه داخله والله أعلم، ولكن من يلتزم قناعته أولى بالتقدير وإن لم ينصف في حياته. ولكن القاعدة لا تستقر إلا ببعض الشذوذ برغم استكانة التاريخ والجغرافيا وحياديتهما فمن قلب البيئة النجدية القصيمية الوهابية خرج عبد الله القصيمي وألف العديد من الكتب حول إشكاليتنا مع التراث فيها من الحدة والنقد الشيء الكثير.
نحن بحاجة إلى مدرسة جديدة في التاريخ لا يقوم فيها الماضي مقام الحاضر ولا يبرز الحاضر حكماً لما قد يفرزه المستقبل إلا بما قد يحفظ للإنسان كرامته وحريته وسيادته وخلافته لله على هذه الأرض

الثلاثاء، 6 مايو 2025

الهوية القاتلة

 لو يعلم من يدفع بمجتمعاتنا إلى هاوية الرؤية الضيقة والبؤرة المحرقية التي تقضي على غيرها ثم تتآكل هي ذاتها من الداخل   أن الاختلاف  عامل أساسي وهام لتعايش المجتمعات،  والحفاظ على أجيالها من الحروب والاقتتال.

 . الدفع بالهوية الاحادية  قتلاً مؤجلاً، الدفع بالمصطلح الهوياتي الضيق سواءً كان  دينياً أو عرقياً  وحده فقط  دون غيره  من أوجه الهوية الأخرى انتحاراً منتظراً.. في زمن «الفتن» وهو مصطلح ديني ينتج مفاهيم دينية والحقيقة أن هذا الزمن ليس زمن فتنة وإنما زمن «مصالح سياسية واقتصادية» تعيش على استهلاك مخزون الدول والحضارات الأخرى من بنى دينية واجتماعية متخلفة.. ولي هنا بعض الملاحظات.
أولا:   ميزة الاختلاف التي خص الله بها البشرية نتيجة أمانة «العقل» التي فضل بها الله بني آدم على غيرهم من المخلوقات «ولا يزالون مختلفين». فالمسلم يأخذ من عقيدته ما يميزها عن غيرها بينما المسيحي أو اليهودي أو غيرهما له ما يستند إليه وهكذا هذه هي ديناميات التعايش.
ثانياً: التطرف الديني في المجتمعات الصناعية ناتج عن غربة الإنسان وتهميشه أمام الآلة ورأس المال فاليوتوبيا هناك يوتوبيا عدمية بينما اليوتوبيا عندنا كمسلمين أو متدينين يوتوبيا «قيامية» لذلك هي عندنا جماعية وأشد تجذرا وهذه مشكلة لا يمكن مواجهتها إلا بتغير جذري في فكر المجتمعات  وإدراك  أهمية التعايش    
ثالثاً:المفروض التخفيف من وهج يوتوبيا العصر الأول وقدسيته سوى ما يتعلق بنبي الرحمة  الكريم  وتدريس التاريخ للأجيال بشكل أقل قدسية ونقاء تدريسه واقعا بشريا وتخليصه من «المدهش» بقدر الإمكان إن كان ثمة أمل يرجى لجيل جديد ينتظم قدما ولا ينكص على عقبيه خوفا من المجتمع المصاب بتاريخه كمرض أو متلازمة أمراض وقة ضاغطة على حاضره ومستقبله. فالهوية الاحادية التي  ترفض غيرها   ولاتقبل العيش مع الاختلاف , هوية قاتلة , والتاريخ منها براء.

المعنى بناء وليس إكتشاف

 لا يمكن لأي مجتمع ان يتقدم طالما كان همه المستمر هو اكتشاف المعنى وليس بناء المعنى، عند كل مشكلة أو إشكالية تنصب المحاولات على إعادة اكتشاف المعنى والحل لها، محاولة اكتشاف المعنى يعني أنه واحد غير متعدد وهنا يبدأ الخلاف والصراع، بينما محاولة بناء المعنى تعني أنه متعدد متجدد، الماضوية التي نعيشها ولا نكاد نبارحها، تنطلق من محاولاتنا المستمرة لاكتشاف المعنى المستقر وليس العمل على بناء معنى أو معان كما تبنى العمارات، لأن المعنى متجدد ويتجدد دائما لكي يبقى معنى، إحالتنا المستميلة للماضي لإيجاد حلول من داخله تجعل من المعنى واحدا والبحث لاكتشافه كمحاولة البحث عن النفط في أي مكان في هذا المعمورة، فالنفط هو النفط سواء وجد في ألاسكا أو وجد في الصين،، بينما المعنى ليس مادة وإنما فهم تحكمه ظروف وجغرافيا وتاريخ لذلك محاولة اكتشافه تعني تجميد كل هذه الظروف التاريخية والجغرافية والديمغرافية في لحظة واحدة كانت صالحة وتحتمل معنى معينا في حينه، بينما بناء المعنى مشروع يأخذ بالظروف والواقع والوقت، نحن نحتاج إلى بناء مستمر للمعنى في ثقافتنا وليس محاولة اكتشافه باستمرار، ما كان يصلح للسابقين لم يعد يصلح للاحقين بنفس المعنى لا سياسيا ولا ثقافيا ولا اجتماعيا، قلما تقتحم عملية البناء تاريخنا، فمعظمه استعادة واكتشاف، اكتشاف معنى العدالة مثلا لدى بعض الصحابة والتابعين لا يصلح لنا هكذا مجردا، لان ذلك كان ورعا شخصيا لفئة قليلة.. ما نحتاجة اليوم بناء جديدا لمعنى العدالة يأخد مفهوم الرقابة والمشاركة وغير ذلك مما يتفق وتعقد اسلوب الحكم وضخامة المجتمعات والاقتصادات، أيضا نحتاج إلى بناء فقه جديد يتفق وظروف العصر، كذلك نحتاج إلى الاقلال وربما اقفال مصادر الصوت الواحد الذي يدعو لاكتشاف المعنى بدلا من بنائه بالرد إلى الماضي واقتناص صور فوتوغرافية وكأنها المجال العام والسائد. علاقاتنا التي تزداد عمودية يوما بعد آخر مع السلطة وأصحاب القرار على حساب العلاقات الافقية الصحية لبناء المعنى وتصحيح النفوس، دليل واضح على أننا نبحث عن المعنى لعجزنا عن بنائه كما تبنى الاهرامات. المعنى في الحياة هو مستقبل دائم وليس ماضيا تاما، تاريخ الدولة لدينا كأمة هو تاريخ اكتشاف للمعنى، لذلك نُهزم كل يوم ولا نزال نتغنى بحضارة 5000 سنة أو بحضارة ما بين النهرين، أو بالغوص على اللؤلؤ، المعنى الجاثم هناك يحتاج إلى عملية بناء تجعل منه حاضرا يتجسد وليس عملية اكتشاف كما هي قائمة.

الطبقة الفنية المفقودة

 من أجمل المشاريع التي أنشئت في قطر، مع الأسف لم يستمر، مشروع كان هدفه إعداد جيل من الفنيين تحتاجه الدولة، رأيت كثيرا من الشباب ذوي المهارات الجديدة في الكهرباء والحدادة والنجارة، لو قدر له أن يستمر وأن يدعم لحقق نتائج باهرة، هناك اليوم مدرسة التقنية على ما أعتقد «الصناعة» سابقا، إلا أنها لا تأخذ نفس الزخم من الاهتمام، والسبب ليس قصورا في الدولة ولكن في نظرة الناس للعمل اليدوي بشكل خاص، وهناك سبب آخر هو التغير لدى نفوس الشباب بسبب نمط الاستهلاك المسيطر اليوم على جميع مناحي الحياه الاجتماعية، الاجيال السابقة، كان لديها استعداد وتقبل بعض الشيء للعمل اليدوي، حيث لم تنغمس في الاستهلاك، ولو كان هناك رعاية حقيقية من ناحية الاجور والدرجات الوظيفية لهذه الطبقة المهنية المتوسطة لامتلكنا كثيرا من الفنيين في جميع المجالات.

العجيب ان معظم الفنيين من الأجانب سواء الأوروبيون منهم أو الآسيويون كانوا بمستوى «البوليتكنيك» وهي معاهد متوسطة بمستوى مركز التدريب والتطوير السابق، لكن المجتمع كان يرى من خلال عقدة الاجنبي، فنعاملهم معاملة كبار المهندسين والمشرفين في السكن وفي الأجور، عندما كنت مسؤولا من إحدى المؤسسات التي كان يعمل بها عدد من الانجليز والذين كانوا يحتلون اعلى المناصب، حين سألت عن شهاداتهم تفاجأت أنهم لا يمتلكون في أحسن الاحوال شهادة «البوليتكنيك»، وتفاجأ بعضهم بالسؤال حيث كان يعتقد أن جنسيته تكفي؟ أعرف شبابا تخرجوا من مركز التدريب على درجة عالية من الفنية في العمل سواء الكهربائي أو الأعمال الفنية الاخرى، أذكر أنني في بداية عملي بعد الثانوية وقبل التحاقي بالجامعة، كنا في حاجة ماسة لكهربائي لإصلاح الإضاءة في مبنى الإدارة، وتم إحضار أحد الشباب الذي كان يلبس «البلوسوت» الأزرق ومعه معداته وأخذ في العمل مدة أعتقد أنها طالت بعض الشىء، فصحت به «رفيق متى فيه خلاص» لأتفاجأ برده قائلا «اشفيك أنا قطري مثلك» تمنيت ساعتها لو أن الارض تنشق وتبتلعني. لم أتوقع قط أن هذا الشاب قطري وكنت أعتقد أنه آسيوي بلا جدال، لم أكن متعودا على رؤية شاب قطري يلبس هذا وبيده «سكاريب ومسامير واسلاك» أدركت ساعتها اننا كمجتمع احيانا نكون جزءا من المشكلة التي نسعى لحلها، ونبحث بعيدا، بينما نحن نعيش الإعاقة في داخلنا قبل كل شيء.إن الطبقة الفنية الوسطى هي الطبقة المفقودة في مجتمعاتنا مما يشكل إعاقة كبيرة في سبيل تطورها  واعتمادها الذاتي  على شبابها 

الدين والاستهلاك

 يأمل بعض مفكري الغرب أن تستطيع الرأسمالية مع موجاتها المتعاقبة وفي صورة متقدمة من صورها الاستهلاكية أن تحتوي الدين بصوره أو بالأحرى لكي يمكن تقديمه حسب الطلب وحسب المواصفات التي يريدها المستهلك حين يتجول في السوبر ماركت ليختار ما يريد من بضاعة حسب ذوقه وشروطه وقدرته المادية. لك أن تتصور يا سيدي أن بإمكانك أن تختار من الدين ما يناسب ميولك ونظرتك للحياة طالما أن الدين اختياري والعقيدة ليست اجبارية. فأنت بالتالي أمام تنوع مدهش، هذه النظرة الاختزالية التي تستبعد الجانب الروحي كجانب اساسي له مدخلات التي قد لا يمكن حسابها أو يستحيل حسابها ماديا وانما هي هوى يستقر في النفس لتتحرك به الاعضاء، يعتقد البعض انه بالامكان تحويل الجانب الروحي إلى مجال اختيار مع الوقت.

اعترف أن هناك تقدما مع الوقت في هذا المجال حققته القفزة الاعلامية المتطورة يوما بعد آخر مع القنوات الفضائية ووسائل الاتصال الاخرى المتكاثرة بجميع الاشكال، اصبح بامكانك أن تختار داعيتك المفضل حسب الطلب بالشكل والصورة والاسلوب الذي تحب والوقت الذي تريد كذلك. ويمثل شهر رمضان السوبر ماركت الكبير لمثل هذا الاختيار فدعايات البرامج واسماء المشايخ تحتل الصحف والمجلات قبل الشاشات، أليس هذا يعد تقدما في سبيل تسليع الدين وادراجه في السوبر ماركت مع البضائع الاخرى. هذا على الاقل فيما يتعلق بمجتمعاتنا الإسلامية، اما المجتمعات الاخرى فالأمر اكثر تقدما منذ زمن فحين استعصى على احد ملوك بريطانيا الزواج انتقل إلى عقيدة داخل الدين المسيحي أو بالأحرى انشأ عقيدة اخرى واسماها الكنيسة الانجليكانية.
عندما يعتقد البعض اننا نعيش للدين وليس بالدين يصبح في الامر معضلة. الدين جاء لتخفيف معاناة الإنسان ولإرشاده لما يسعده في هذه الدنيا. الدين جاء لنحيا به لا من اجله إلى أن تحين النهاية. النظرة لتسويقه جاءت لاعتقاد الغرب وليس كله بالطبع انه في مواجهة مع الإسلامي، هكذا خيل له أو جعله البعض يتصور ذلك نتيجة سوء العرض لهذا الدين الإنساني الخاتم.
أنا اعتقد ما لم تكن لدينا القدرة لإظهار الإسلام كما أراده الله رحمة للعالمين فعلينا وزر، أما اذا عرضنا بما يخالف ذلك فعلينا وزران.
أعتقد أن من أول بدايات دخولنا عصر التسليع الديني لاشعوريا هو التركيز على رمضان والقنوات الفضائية والتسابق على عصرنة الإسلام بحجة أو بأخرى  في حين أن في شبابنا وبدايات النهضة في دولنا في الستينيات وأوائل السبعينيات كان الدين كالهواء النقي نتنفسه ونسعى اليه ونعيش به ونحن لانملك قناة واحدة ولا سوبرماركت من حولنا وكان شيوخنا هم آباؤنا واجدادنا   ومدرسينا الاوائل.

الاثنين، 5 مايو 2025

قطر ومرتبة الإحسان

 ليس المستوى الرسمي هو وحده الفاعل في العلاقة بين دولة قطر وشقيقاتها من الدول العربية، بل كان هناك مستوى شعبي على قدر كبير من الرسوخ والصلابة من خلال النهضة التعليمية التي شهدتها الدولة منذ الستينيات وصاعداً، لم يكن الاخوة العرب من المصريين والفلسطينيين وغيرهم فقط مدرسين بل كانوا أيضاً طلاباً ودارسين في النظام التعليمي القطري الذي بدأ بقوة وبتوجه عروبي قومي جعل من الطالب يشعر بعروبته قبل أقليميته الضيقة وبإنسانيته قبل دينه الذي يعتنقه، لازلت أذكر إخواناً من العرب الفلسطينيين ذوي الديانة المسيحية يدرسون معنا امتازت العلاقة معهم بود شديد وبألفة ومحبة،   وغيرهم كثيرون، غير الاخوة من الاشقاء المصريين واليمنيين والأردنيين الذين درسوا معنا كذلك. وبعض الاخوة من السودان لا أذكر طلبة من المغرب العربي في ذلك الوقت. علاقتنا بإخواننا العرب علاقة وثيقة، لايزال هناك الكثير من هؤلاء الاخوة يذكرون الجميل لقطر والفضل أيضاً في تعليمهم، كثير منهم عادوا أطباء ومهندسين للعمل في قطر، أنا اعتقد أن إشكالية التعايش مصطنعة ولا دخل للطرفين شعبياً بها، البُعد العربي أضفى على العلاقة الشعبية بين أبناء الامة نوعا من الثبات والمشترك العام أكثر من ضيق الاجندات الايديولوجية التي عملت على التفريق بين مكونات هذه العلاقة بشكل يمكن تلمسه من ردود الافعال على تطور هذه العلاقة الايديولوجية الضيقة، كان الاخوة من الديانة المسيحية لا يحضرون دروس العلوم الشرعية ويكتفون بعلامة النجاح الموضوعة لهم لاختلاف ديانتهم عن المنهج، لم يكن ذلك يمثل لنا أي مثلبة أو نقصاً يمكن التكتل حوله بل يلتئم جمعنا بعد تلك الحصة في ما تبقى من الحصص بكل ودَ وتآلف، تلك الروح السائدة جعلتنا نتكدس خلف المقاومة الفلسطينية ونتزاحم ونحن صغار في الابتدائية لنحضر خطاب أحمد الشقيري في استاد الدوحة، كانت قطر عضواً فاعلاً، نعم لقد ساهم الاخوة الفلسطينيون في نهضة قطر التعليمية بالذات مع إخوان لهم من مصر العربية كذلك، وكذلك قطر ساهمت أيضاً في تعليمهم وفي توظيفهم بعد ذلك، إ علينا أن نوظف العلاقة بشكل أفضل لايرى فيها المواطن سلباً ولا يشعر بها الآخر مغنماً. ولا نعتبر الشذوذ قاعدة كما لا تُعتبر القاعدة شذوذاً. أبناء أوائل المعلمين من إخوتنا العرب وأحفادهم كذلك علمتهم قطر ودرسوا في مدارسها وجامعتها ولا زلت أذكر أسماء العديد منهم   نحتاج جميع إخواننا العرب ليسوا كبديل وإنما كشركاء بعيداً عن الايديولوجية الضيقة والطهورية الدينية والثورية الانتهازية.

الحياة مابعد السُلطة

  

أشفق   على كثير من  الزعماء والقادة العرب لسبب بسيط وهو عدم وجود حياة حقيقية لهم بعد غياب السلطة عنهم وحتى وإن وجدت فهي حياة أقرب إلى الجمود منها إلى الحياة، فالإفراز التاريخي لأمتنا في هذا الخصوص لا يخرج عن موت القائد أو الزعيم أو إبعاده قسراً وغيابه في المنفى وفي بعض الحالات التخلص منه ومن مرحلته بأي طريقة كانت، باستثناءات محدودة، فهذه المخرجات هي ما استوطنت عليه أمتنا ولو استعرضنا الوطن العربي نجد أن هذه هي شروط انتقال السلطة وإن تلاشت بعضها مثل الاغتيالات وبقي المراهنة على الموت لتداول السلطة. ما يدعوني إلى التذكير بهذه النقطة النماذج الغربية للحياة بعد السلطة فالرئيس الأميركي الاسبق كلينتون مثلا  بعد خروجه مباشرة من السلطة أصبح محاضراً في العديد من الجامعات وتعاقد مع جامعة أكسفورد للتدريس فيها بعد خروجه من السلطة في البيت الأبيض بوقت قصير وقبله انتقل بوش الأب إلى إدارة أعماله في تكساس بعد سنوات حامية في البيت الأبيض وغيرهما كثيرون في أوروبا ممن يمارسون حياتهم باستمتاع كبير بعد سنوات السلطة والزعامة.
فالسلطة هناك فترة مرحلية تتبعها فترات من النضج والتأمل ولكنها عندنا نهاية المطاف وغاية المنى وغالباً ما يخيب الظن في النهاية فإذا بها كارثية. مثل هذه الحالة النكوصية التي يعاني منها وطننا العربي الكبير ولا تشاركه فيها سوى بعض دول إفريقيا وآسيا، هذه الحالة التي يندفع فيها الشعب والجيش في أغلب الأحيان ليمارس صلاحياته تحت مسمى استشراء الفساد دونما خطة أو برنامج لا تمثل حلاً ناجعاً للاشكال، حيث لا آلية واضحة لممارسة العمل السياسي، فإذا بالفساد يعود من جديد وبثوب آخر. ولو استعرضنا وطننا الكبير بلداً بلداً وتساءلنا عن السلف فهو بلا شك يقع بين تلك الإفرازات التي أشرت إليها سابقاً، " دول الخليج استثاء " نظراً لطبيعة السلطة وطبيعة انتقالها "ولو تساءلنا أكثر عن المستقبل، أي ما بعد الزعيم أو القائد الحالي، فليس هناك جواب وانما الأمر متروك للقدر، فهو بالتالي لا يخرج عن تلك الإفرازات أيضاً:  ان مأساة الأمة ومكمن أمراضها يتمثل في الاستبداد فلا مخرج لها من دون التعامل مع هذا الداء حيث لا إصلاح للتربية ولا إصلاح للثقافة ولا وجود حقيقيا للتنمية دونما البدء بمعالجة الاستبداد الذي يجعل من السلطة نهاية المطاف وليست مرحلة يبنى عليها وترتكز عليها خطوات أخرى، لقد هُزمت الأمة من جراء هذا الاستبداد ونزفت أموالها إلى العدو واقتصاداته الموالية بسببه ولسبب حب السلطة أو جعلها نهاية المطاف، فلا يحتمل عربي أن ينزل من السلطة ليعامل بعد ذلك كإنسان أو مواطن عادي، وهذه في حد ذاتها إشكالية ثقافية لايقبلها العقل العربي بسهولة. لأنه يرى السلطة في تقابل مع الحياة أو بالاحرى هي الحياة فلاحياة له بعدها. 

وطني الأكبر

 كان معظم مدرسي تلك الحقبة في قطر من الإخوة المصريين والإخوة الفلسطينيين، أما الطلبة فجلهم قطريون ومع الوقت التحق بمدرستنا بعض الإخوة من البحرين الذين نزحوا إلى قطر وسكنوا الريان أو غزة القريبة منه والتي هي اليوم مدينة خليفة الغربية في الغالب.

كان الوعي السياسي واضحاً لديهم، خاصة الوعي القومي بالذات، كانت بعض أسمائهم جديدة نوعاً ما على مجتمعنا التقليدي، على كل حال، كانت المدرسة تقدم لنا غذاءً تربوياً متكاملاً وليس فقط دروساً في المنهج المدرسي، فهناك مسرحيات وهناك تفاعل مع الوضع العربي بشكل أشعرنا كطلبة بأننا نعيش العالم العربي كله بين جنباتنا ونحمل الهم الكبير من المحيط إلى الخليج ضمن حقائبنا التي نحملها على ظهورنا متجهين إلى مدارسنا، من أشهر المسرحيات التي مازلت أذكرها وربما كنت في حينه في الصف الثاني أو الثالث، مسرحية «السيف والقلم»، وهي مأخوذة من قصيدة المتنبي المشهورة وبيته الأشهر: الخيل والليل والبيداء تعرفني.. والسيف والرمح والقرطاس والقلمُ.
وفي أحد الأيام وكنت في الصف الثالث الابتدائي وقبل طابور الصباح فوجئت بتظاهرة تخرج من المدرسة يقودها الطلبة الأكبر سناً منا في الصفين الخامس والسادس تتقدمهم صور الزعيم الراحل جمال عبدالناصر متجهين نحو شارع الريان القديم العام بين قصر الشيخ خالد بن حمد أطال الله في عمره، وبيت خالد بن عبدالله العطية رحمه الله، بعد أن أشاروا لمن هم في سني بالذهاب إلى البيت.
ولازلت أذكر صورة الرئيس عبدالناصر في المقدمة.
كانت المدرسة في حينه جزءاً من النظام العربي ومن وعي الإنسان العربي بذاته وبحقوقه، كما كانت تقوم بدور اجتماعي واقتصادي مهم وخطير، فعن طريقها كان الطلبة يتلقون المساعدات من كسوة سنوية كاملة صيفاً وشتاءً، بالإضافة إلى رواتب شهرية، بالإضافة كذلك إلى تغذية يومية متمثلة في توفير الألبان للطلبة بعد الحصة الثالثة وقبل الفسحة الرسمية بين الحصص. كان طابور الصباح مهرجاناً عربياً بامتياز يفتح آفاق الطلبة على عالمهم العربي الكبير يتم فيه استعراض قضايا الأمة العربية، قصيدة هنا عن فلسطين، وكلمة هناك عن الجزائر، كانت المدرسة نموذجاً مصغراً في وعي الطلبة عن «وطنهم الأكبر».