من نقد المجتمع الى شتمه
عبد العزيز الخاطر
2005 / 10 / 12
تجليات اليأس العربي : من نقد المجتمع الى شتمه
تتفتق الذهنية العربية باستمرار بمظاهر تدل على مدى وعمق الأزمة التي يعاني منها مجتمعنا العربي . وهي أزمة هيكلية في جوهرها حيث لا توافق بين الفكر والواقع أو بين الأقوال والأفعال ، ففي حين يجرى إطلاق العنان للفكر والتعبير عنه يجرى تثبيت الواقع وإرادة الفعل بحيث يبدو الانفصام ماثلاً لكل ذي بصيرة . فمثلاً طُرح شعار النقد البناء كتوجه وطولب به كممارسة ولكنه لم يتحول الى وسيله فاعلة وانما اتخذ شكلاً فوقياً لأسباب عديدة فكانت النتيجة لذلك انتقاله الى مرحلة أخرى متقدمة بعض الشيء وهي مرحلة جلد الذات فتكوٌر المجتمع حول نفسه زاعماً أنه الجلاد وأنه الضحية في الوقت نفسه وانتقل الوضع بعد ذلك الى مرحلة أكثر خطورة ونشهد أطرافها اليوم وهي مرحلة " شتم " المجتمع والتشكيك في قيمة ومبادئه وتراثه والمقصود بالمجتمع هنا ليس أولئك الأفراد وانما ما يشتركون فيه من ثقافة وتراث . ففي حين يبدو النقد الذاتي مطلباً تظهر المبالغة في جلد الذات وكأنها نكوص أما شتم المجتمع فأنه يبدو مرحلة متقدمة من انسداد الرؤية وعدم التمييز أو " حالة منخولية " Melancholy وهي دليل الثبات المذموم الذى يجافي الفطرة .
لقد مرت الأمة عبر تاريخها بمحاولات عديدة انبرى لها العديد من أبنائها ومثقفيها اتخذت من تلك الأنماط البكائية الثلاثة ما بين النقد والجلد والشتم مرتكزاً أو محوراً ثابتاً لاسيما فيما يتعلق بإشكالية التراث والحداثة . فمنهم من اعتقد بالمزاوجة ومنهم من اعتقد بتجزئة التراث وتبين غثه من سمينه وآخرون اعتقدوا بالقطيعة مع الماضي واعادته الى المتاحف فقط ومثل ذلك الوضع لم يكن قصراً على أمتنا العربية والإسلامية ولكن غيرنا من الأمم كانوا أكثر حسماً للموضوع ولم تصل بهم الأمور إلى ما وصلنا إليه من مراوحة حول الذات . المشكلة كما أراها تبدو في تماهي الماضي مع الحاضر والنظام بالمجتمع بحيث لا تبدو هناك فواصل واضحة بين تلك الأطراف فالماضي نعايشه حاضراً والنظام هو المجتمع أو هو الراعي بينما المجتمع هو القطيع المسيّر طوعاً أو كرهاً . في مثل تلك الحالات تبدو ردود الأفعال انتحارية وفي كل الجهات والاتجاهات .
في المجتمعات المعافاة يتحول النقد عبر آليات معينة الى أبعاد مادية أو الى مشاريع إصلاحية عبر القنوات المتعددة القانونية أو البرلمانية . فالأصل في النقد أن يكون فاعلاً أي يمكن ترجمته الى شيء ملموس ولا يصل الى مراحل أخرى أكثر خطورة فهو في تلك الحالة ذو نبرة تصاعدية خاصة إذا أصبح هدفاً في حد ذاته . فالمجتمع الذى لا توجد لديه آليات استيعاب مظاهر التعبير عن الرأي بحيث لا تشكل أية إعاقة أو أزمة تفتك به لا يستطيع أن يدعي الحرية أو الديمقراطية بل هو أقرب الفوضى أو عدم الانتظام .
لقد استعاضت أنظمتنا العربية عن ايجاد تلك الآليات ، باستغلال التكنولوجيا ممثلة في القنوات الفضائية لكي تلعب على وتر المكبوت العربي بأشكاله المتعددة تكريساً لاستمرارها لذلك شهدنا ونشهد يومياً قواميس متجددة من عبارات النقد وجلد الذات انتهاءً بالشتيمة . حتى خيل للبعض بأننا أمة من " الشتّامين " خاصة إذا كان هناك ما يدعم ذلك التوجه تراثياً حيث باب الهجاء يعد من أهم أبواب " الشعر " وهو ديوان العرب فإن ذلك يتفق كذلك وما جرى تسميته ظاهرة صوتية وهو أبلغ وصف لهذه الأمة ... في حاضرها على الأقل .
لا جرم أن تكون المجتمعات التي شكلت الصدفة التاريخية أنظمتها وتراتبها الاجتماعي ، مرتعاً خصباً لأشكال الانحرافات النفسية ، بسبب شعورها بالحرمان والتهميش.
ان تزايد ضغوط العولمة هو ما حدا بالأنظمة العربية لإطلاق حرية الفضاء وتشجيعها ولكن مقاييس التنمية الحقيقية لا تزال بعيدة نظراً لأن الضغط خارجي المصدر وعولمي التأثير . فإن كان ما نمارسه اليوم عبر وسائل الميديا بأشكالها ما هو سوى مظهر جديد لشعر الهجاء في السابق فالمصيبة عظيمة أما إذا كان ذلك دليلاً على عجزنا ويأسنا من إصلاح الحال عربياً وداخلياً أولاً ، فالمصيبة أعظم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق