العلمانية فى العالم العربي
الغياب الذى نتصوره حضورا
عبد العزيز الخاطر
2008 / 2 / 9
حول المفهوم : -
في اعتقادي أن مفهوم العلمانية هو أكثر المفاهيم غياباً وحضوراً في نفس الوقت في فضائنا العربي لا يكاد يمر يوماً دون أن يعرض على الأذن العربية ولا يمر يوم كذلك دون أن تبعد المسافة بينه وبين تضاريس أرض الواقع العربي والإسلامي المعاش . ففي الوقت الذي يتلقفه البعض بلسماً ودواءً يشفي الأمة من أمراضها ، يمتعض البعض الآخر من ذكره وتشمئز النفوس من الاتيان به لتوجهه الشديد - كما يعتقد ذلك البعض - الى بؤرة المقدس داخل النفس ومحاولة النيل منها وتفكيك بنيتها . وهو يشترك في ذلك مع كثير من المصطلحات أو المفاهيم التي جرى استيرادها ونقلها من بيئتها ومحاولة غرسها في بيئة أخرى عجزت عن الاضطلاع بدورها التاريخي في إنتاج آليات ومكونات ثقافتها من ذلك مثلاً مصطلح الديمقراطية الغربي حيث لا يمر يوم لا تقام فيه له ندوة أو مؤتمر أو تجمع فتحول من كونه منتجاً ثقافياً تاريخياً يمكن لكل المجتمعات أن تنتجه بما يتناسب وظروفها ومعطياتها وبمسمياتها الى أيقونة تُعبد يخرج بعدها الكل وكأنهم قد أدوا واجباتهم الدينية نحوها . فالمصطلح أو المفهوم العلمي الاجتماعي بالذات يتكون عبر صيرورة تاريخية يصبح من الصعب بعد ذلك إلغاؤه أو التخلص منه وفي نفس الوقت يصبح من الصعب كذلك غرسه في بيئة غير بيئته التي شهدت عملية تفاعله في شكل صيرورة تاريخية لما لها من خصوصية وتفرد ، فلذلك حتى في الغرب نفسه وهو من أنتج هذين المفهومين ؛ العلمانية والديمقراطية نرى تفاوت في فهم وتطبيق كليهما واختلاف بلد عن آخر في درجة ذلك بل وفي ثبات ذلك فدولة مثل فرنسا لا يزال مفهوم العلمانية فيها مثار بحث ونقاش بين الحين والآخر حتى أن الرئيس السابق شيراك قد شكل لجنة منذ عدة أعوام للبحث في مسألة العلمانية . لذلك فإن من يتشائم لمستقبل العلمانية في عالمنا العربي والإسلامي ليس على حق لأنها لم توجد بعد كصيرورة تاريخية وانما كل الذي يثار اللغط حوله هو إكسسوارتها المستوردة فقط التي لا جذور لها أساساً لأنها لو ولدت كصيرورة فسوف تستمر بحيث لا يمكن التراجع عنها ودفع التاريخ الى الوراء إلا إذا افترضنا أنه بالإمكان اعادة دولة المواطنة في الغرب الى ما قبل ذلك . ان الصيرورة التاريخية تتطلب مراجعات فقط حيث ليس من قبيل المنطق والواقع إلغاؤها . ثم ان الإشكالية الأخرى مع هذا المفهوم تتمثل في صعوبة تحديد معناه أو ما يراد به من جانبنا على الأقل ، ولعل أصعب ما يقع على الأذن العربية والإسلامية تعريفه بأنه فصل الدين عن الدولة وهناك من يخفف من حدة هذا التعريف بأنه عدم فصله عن المجتمع وانما عن الدولة فقط وآخر يرى استبداله بمفهوم أو مصطلح الديمقراطية وثالث يرى الاكتفاء منه بحيادية الدولة أمام الأديان وعدم تدخلها في تفضيل أو محاباة دين على آخر والبعض يرى أنها الانتقال من حالة التمركز حول القيم الأخروية الى التمركز حول القيم الدنيوية لتدبير شؤون الحياة الدنيوية المعاشة الى ما غير ذلك من التفسيرات لهذا المفهوم - الصيرورة حيث أنه نابع من بيئة أخرى لها خصائصها وهو حصيلة تاريخ لم تعشه الأمة العربية والإسلامية ونظراً لاختلاف هذا التاريخ ومكوناته عن تاريخنا العربي والإسلامي من حيث تحولاته وتعرجاته ومفاصلة التاريخية التي أمكن معها تقسيمه وتحديد مراحل تطوره الأمر الذى أدى الى عملية تراكم وبناء وتأصيل للعديد من المفاهيم والمصطلحات التي أصبحت اليوم ثقافة إنسانية وتراكم حضاري انساني وفي مقدمة تلك المفاهيم مفهوم أو مصطلح العلمانية ولو نظرنا لوجدنا أن هناك ثلاثة مفاصل رئيسية للتاريخ الغربي أدت به لأن يصبح صانعاً للحضارة بجزئيها المادي والمعنوي ( الثقافي ) وتلك المفاصل تتمثل في كل من عصر النهضة والإصلاح الديني ومن ثم عصر الأنوار فالثقافة الغربية نتيجة لذلك التراكم من تلك العمليات أو المفاصل التاريخية الثلاث وعندما يجري إسقاط منتوجها الفكري أو الثقافي بعيداً عن أرضيته على تاريخ آخر صلد لم يعرف التقسيم أوالتحقيب التاريخي المنتج وليس سوى الاجترار التاريخي وكل ما يتغير هو آلية اجتراره فقط فبالتالي يصبح ذلك المنتج مشوهاً ولا يعني حقيقته ولا يدل على معناه كما أشرت سابقاً .
المقاربة العربية التاريخية للمفهوم :-
حاول الكثير من المصلحين والمثقفين العرب بعد ما عرفوا داء الأمة وسبب ضعفها إيجاد أسباب ووسائل لخلق تاريخ جديد للأمة يقوم على مركزية العلم والدين معاً من خلال التجديد في فهم الدين من خلال توافقه مع العلم ونزع الفهم الأسطوري عنه وكان من أبرز ذلك الرعيل فيما يتعلق بتيار التجديد في الدين رفاعة الطهطاوي ، والأفغاني ومحمد عبده وعبدالرحمن الكواكبي . أما فيما يتعلق بالتيار الليبرالي فهناك شبلي شميل وفرح انطون وغيرهما . وبعد سقوط الخلافة الإسلامية في أوائل عشرينيات القرن المنصرم وقطع الطريق على أي استخدام جديد من جانب السلطة للدين انبرى الشيخ علي عبدالرازق في كتابة " الإسلام وأصول الحكم " محدداً الفرق بين السلطة الدينية والسلطة الدنيوية كما حاول طه حسين تطبيق منهج الشك الديكارتي على الشعر الجاهلي العربي وطالب بضرورة ربط مصر بأوروبا وهناك من كذلك نادى بهوية مصر الفرعونية لا العربية كسلامة موسى وبالداروينية العلمية بدلاً عن الدين وللتخلص من التراث نادى البعض بالقطيعة معه أو إهماله إلا أن الكثير منهم عاد واعترف بصعوبة ذلك بل باستحالته مع أمة يحتل فيها التراث مكان القلب من الجسم كطه حسين و زكي نجيب محمود و حسين هيكل . لم تفلح محاولات أولئك المثقفين في اقامة كتلة تاريخية حاملة لفكرهم بل اتهموا مرة بالتغريب وأخرى بالزندقة والخروج من الدين . وفي الجانب المضاد ظهر تيار )الاخوان المسلمون) في محاولة لسد فراغ سقوط الخلافة الإسلامية . وبعد خروج الاستعمار سيطرت نخب سواء أكانت عسكرية أم عشائرية أم قبلية على مقادير الشعوب والدول وكان تعاملها مع التيار الديني بالذات نظراً لقوته وخصوصيته في مثل تلك المجتمعات دون غيره من التيارات يأخذ أحد بعدين أما احتواؤه والتحالف معه أو عزله ومحاربته ورمي رموزه في السجون والمعتقلات . وفي نفس الوقت استولت الدولة على المجتمع وأجهضت أي محاولة لقيام مجتمع مدني يؤمل منه قيام فكر سياسي جديد يتعدى مرحلة الولاءات الأولية .
ومع مرحلة المد القومي دخل العرب في مرحلة عاطفية جديدة غلبت فيها النظرة النوستالجية الى الماضي . وبالرغم من إيماني بأن القومية رابطة علمانية ترتقي في المستوى على الروابط الأخرى الأولية العشائرية أو القبلية أو الطائفية إلا أن شمولية الفكر والحكم المطلق واستخدام العنف والديكتاتورية لم تجعلها تؤدي دورها بالشكل المطلوب في حين يجرى استثمارها في أجزاء أخرى من العالم بشكل يجعل منها رابطة ثقافية وديمقراطية في نفس الوقت .
أما بعد الهزيمة بالطبع كان لابد من أن تذهب القشرة ويظهر قاع المجتمع العربي والمرجعية الأقوى فيه ألا وهي الدين ليأخذ المبادرة السياسية وينطلق كأيديولوجيا جديدة تسترجع ما جرى قطعه أو بتره من فكر تكفيري بعد مقتل سيد قطب في منتصف الستينيات زاده غزو أفغانستان والإجماع على تعزيز فكرة الجهاد لإخراج الكافر الملحد من أرض الإسلام التي حظيت بالتأييد العربي والغربي كذلك ، أما الأحزاب العلمانية التي قامت في دولنا العربية سواء قبل الهزيمة أو بعدها فأنها باتت ضعيفة وغير مقنعه وتعيش حصاراً بين الدولة وبين التيار الإسلامي الكاسح حيث تستمد إيديولوجيتها من الخارج وتفتقد الى الأرضية الجماهيرية المؤثرة في الشارع والدلالة على ذلك أن معظم الانتخابات النيابية في معظم أن لم اقل في جميع الدول العربية من المحيط الى الخليج كما تشير دراسة نشرت مؤخراً من معهد كارينجي للسلام في أمريكا تؤكد ضآلة تأثيرها الى جانب الأحزاب المتأسلمة . هكذا نرى أنه كانت هناك محاولات لمقاربة مفهوم العلمانية من جوانب عدة أساسها فك الارتباط بين الدين والاستبداد السياسي ومحاولة لتجديد فهم الدين والأخذ بالعلم الوضعي والابتعاد عن الفكر الأسطوري المتلبس بالدين الى ما غير ذلك ولكن تأثيرات تلك المقاربات كانت قليلة وغير مؤثرة وسرعان ما تختفي لتضيع بين سندان الاستبداد السياسي ومطرقة التعصب أو الأصولية الدينية كون أصحابها لم يمتلكوا رؤية أو برنامج عمل للتجاذبات التي تتعرض لها قضية العلمانية سواء جاءت على يد القوى الرسمية الحاكمة التي تستخدمها كذريعة لمنع الانفتاح السياسي أو على يد المعارضات المختلفــة ( كما يشير برهان غليون ) وبسبب غياب وجود المجتمع المدنى المستقل ولكن لابد من الإشارة الى أن هناك فارقاً كبيراً بين ما يشهده العالم الغربي من رد اعتبار للدين وظهور التيارات السياسية التي تعتمد الدين وتأويلاته بالذات كالمسيحية اليهودية وأربابها من المحافظين الجدد وبين ما يشهده عالمنا العربي من اجتياح للفكر الديني الأصولي بالذات . فالأول يقع ضمن إطار اللعبة الديمقراطية التي تخدم خيارات الشعوب ويمكن بالتالي يمكن إزاحته عندما تتبدل تلك الخيارات أو الرغبات أما في عالمنا العربي والإسلامي حيث لا إطار أصلا للعبة السياسية ولا مجال لخيارات الناس فيجرى حمل الأمة والشعوب فوق ما تحتمل كما شهدنا ذلك في حالة صعود التيار القومي أو التيارات الأصولية حالياً ؛ فالسياسة لا وجود لها أساسا في عالمنا العربي وكل ما يجرى هو خارج ذلك الإطار علمياً حتى داخل إسرائيل الدينية يمكن للدين أن يصنع سياسية ولكنها قابلة للمراجعة من قبل التكتلات والأحزاب الأخرى هذا هو الفارق القاتل بين صعود التيار الديني على الجانبين وآثاره المستقبلية على الطرفين .
صعوبة توليد المفهوم عربياً :
يصر العديد من الليبراليين العرب على ضرورة قيام العلمانية بمعنى فصل الدين عن السياسة بالذات إذا كان هناك ثمة مستقبل يرتجى لهذه الأمة ولمنع أس الداء المعضل الذى أدى الى تدهورها وتراجعها بين الأمم وهو تحالف المؤسسة الدينية مع النظم السياسية الاستبدادية منذ فجر التاريخ العربي حتى يومنا هذا نرى ذلك من خلال كتابات العفيف الأخضر وشاكر النابلسي وبرهان غليون وغيرهم وفي نفس الوقت هناك ثمة إقرار بخصوصية هذه المنطقة دينياً وخصوصية الإسلام كدين يتجدد باستمرار في نفوس أصحابه من خلال ربطه الدائم بين ثنائية الدنيا والآخرة ولما لهذه الثنائية من قوة ميتافيزيقية تكاد لا توجد في غيره من الأديان . ولم يتحول بعد كما يدعي البعض الى ظاهرة فوقية في حياة الإنسان كما يدعي الماديون وكل محاولة تتجه الى تهميشه تبوء بالفشل لا محالة قديماً وحديثاً . فلذلك يأتي الربط دائماً بين العلمانية والديمقراطية كشرط أولى لقيام الديمقراطية في المنطقة ربطاً تعسفياً لا يخدم القضية العامة وهناك من يؤمن بأن الدول العربية تمارس علمانية في بعض مجالات الحياة كالاقتصاد مثل وجود البنوك الربوية الى جانب البنوك الإسلامية إلا أنها ترفضها في مجال السياسية عندما تصبح فصلاً للدين عن السياسية . بل أن هناك دول عربية علمانية أساسية لكنها ديكتاتورية كالعراق وسوريا ومصر وكل هذه الأمثلة تدل على أشكال من العلمانية الناقصة أو المزيفة لأن العلمانية في مراحلها المتقدمة هي بالضرورة ديمقراطيــــة ( شاكر النابلسي ) . في حين يصر الأصوليون بأنه لا مكان لهذا المفهوم في دنيا الإسلام مطلقاً فالإسلام دين ودنيا ولا يمكن التفكير في دولة تقوم فيها حيادية بين الكفر والإيمان . وكان العديد من المفكرين والباحثين قد دعوا الى إحلال مصطلحات إسلامية محل المفاهيم الغربية إذا كانت ستؤدي في النهاية الى نفس الغرض كمصطلح الشورى القرآني مكان مفهوم الديمقراطية الغربي لتجاوز مثل ذلك الإشكال إلا أنه فيما يتعلق بمفهوم العلمانية فلا يبدو الأمر سهلاً إلا إذا أمكن نزع ظلال الشيطنة الذى يحيط به داخل النفس العربية والإسلامية المتزمتة بالذات على الرغم من وجود العديد من الآيات القرآنية الصريحة في حتمية خيار الإنسان لوضعه الديني في هذه الحياة ولخيارات المجتمع فى هذه الحياة ، ولا يبدو كذلك أن هناك ثمة إمكانية لإعادة انتاج تاريخ الغرب يمكن تمثلها في مكان آخر من العالم لتجاوز مثل هذه العقبة .
فإشكاليتنا اليوم ليست فقط مع عدم إنتاج عناصر وآليات النهضة الذاتية ولكن حتى في استيعاب ما تنتجه الحضارات الأخرى بشكل يجعلنا لا نتوقف ونتأخر " تركيا تبدو استثناءاً لذلك " فكثير من الحضارات تماثلت مع منتجات غيرها سواء الثقافية أو المادية منها والمعضل أكثر اليوم هو فى سرعة تحول المنتجات الى مدخلات فالديمقراطية والعلمانية اليوم بعد أن كانتا منتجات أصبحتا اليوم مدخلات في عملية أكبر هي ظاهرة العولمة التي تغطي الأرض بأكملها . فكيف يمكننا التعامل مع الكل فيما نحن في تضاد مع الجزء . لذلك يصبح الارتداد وعدم التطور دائماً هو القاعدة وليس الاستثناء .
الخاتمــــــــة :
لكيلا تموت المفاهيم والنماذج القيمية لابد من انتاجها أو إعادة إنتاجها محلياً . هل شهد العرب مفهوماً دالاً على أساس الحكم والغلبة والسيطرة في عالمهم العربي من الأزل حتى يومنا المعاش أدق من مفهوم " العصبية " العربي ؟ الذى انتجته الأدبيات الخلدونية لابد اذن من اطعام القوالب الجاهزة التي نستوردها من الخارج من بنات هذه الأرض حتي تستقوي ويشب عودها . متى نعي أن استيراد المفاهيم الثقافية ليس كاستيراد التكنولوجيا الصماء ؟ حيث أنها بحاجة الى تغذية من نوع خاص لكي يقبلها الجسم المراد غرسها فيه . لم ينضب تاريخنا ولا تراثنا كأي تاريخ أو تراث إنساني من الحلول لمشاكل الإنسان بصفه عامة ولكن الفرق بين من يستلهمه ويطوره وبين من يقف أمامه أما مقدساً إياه أو طالباً التخلص منه . أنا على يقين أن العديد من معاني مفهوم العلمانية وتفسيراتها التي نتخاصم حولها اليوم تختبئ في أحد زوايا وأطراف وحواشي تراثنا بشكل أو بآخر تحت اسم أو أسماء أو صفات أخرى قد تغنينا عن كثير من الصراعات الجانبية لو استطاعت أعيننا المتجه والمبهورة بالآخر المنتصر من الإيقاع بها واستخراجها والتعامل معها بشكل يريح البلاد والعباد .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق