الخلل السكاني في دول الخليج العربي: قراءة وجودية
مقدمة
تشهد دول الخليج العربي تحوّلًا سكانيًا غير مسبوق في القرن الحادي والعشرين، يتمثّل في اتساع الهوة بين أعداد المواطنين الأصليين والعمالة الوافدة، حتى أصبحت الأخيرة في بعض الدول أغلبية عددية. ورغم أن الأدبيات السياسية والاقتصادية تناولت هذه الظاهرة من منظور التنمية، إلا أنّ مقاربتها من زاوية وجودية–فلسفية تكشف أبعادًا أعمق تتجاوز مسألة التوازن العددي إلى السؤال حول معنى الوجود المحلي ذاته.
يعتمد هذا المقال على المفاهيم التي يطرحها كتاب «لا مستوطن ولا مواطن» في تحليله للبنى الاستعمارية غير المباشرة، وعلى أدوات فلسفية من هايدغر وفانون وأغامبن، لبيان كيف يؤثر الخلل السكاني على العالم المعيش للسكان الأصلانيين في الخليج، وعلى بنية المكان، وعلى معنى الانتماء.
أولًا: الإطار النظري – مفهوم «الوجود المعلّق»
يقدّم كتاب لا مستوطن ولا مواطن تحليلاً لفئات بشرية تعبّر عن حالة «الوجود المعلّق»: حضور جسدي في المكان يقابله غياب في بنية الاعتراف السياسي أو الثقافي(1).
ورغم اختلاف السياق الخليجي عن النماذج الاستعمارية التقليدية، فإنّ المفهوم يساعد في فهم وضع جديد يتشكل:
الأصلاني الخليجي ما يزال معترفًا به قانونيًا، لكنه يواجه احتمال أن يصبح غير معترف به رمزيًا في المجال العام الذي يزدحم بثقافات أخرى.
بهذا المعنى، يصبح المواطن حاضرًا في الوطن، لكن عالمه يتقلّص.
⸻
ثانيًا: المكان كـ«عالم» لا كجغرافيا – قراءة هايدغرية
يرى مارتن هايدغر أن الإنسان لا يسكن المكان بوصفه مساحة؛ بل يعيش في «العالم» بوصفه نسقًا من العلاقات والمعاني(2).
وبذلك، يصبح الخلل السكاني حدثًا وجوديًا لأنه يعيد تشكيل:
لغة التواصل
و إيقاع الحياة
كم يؤثر طبيعة العلاقات بين الأفراد
و أنماط الحضور في المجال العام
وينعكس ذلك مضمون الذاكرة المشتركة
حين تتغير هذه العناصر، يتغير العالم الذي يسكنه الأصلاني، حتى وإن بقيت الحدود الوطنية ثابتة.
⸻
ثالثًا: الكثرة العددية كقوة تغيير غير مقصودة
لا يحمل الوافدون إلى الخليج مشروعًا استيطانيًا، ولا ينازعون السكان الأصليين على السيادة. لكن الكثرة العددية في ذاتها تنتج ما يشبه «الاستعمار البنيوي الصامت»، الذي يتشكل بلا نية ولا صراع(3).
وفق هذه الرؤية، يصبح الأصلاني:
• مواطنًا قانونيًا
• لكنه أقلية رمزية
• يعيش في وطنه
• ويشعر أن المجال العام يتكلّم بلغات وثقافات أخرى
أي أنّ المواطن يتحوّل تدريجيًا إلى فئة «داخل الدولة» دون أن يكون «داخل العالم المعيش» كما يصوغه أغامبن(4).
⸻
رابعًا: اللغة – تراجع «بيت الوجود»
يعتبر هايدغر اللغة «بيت الوجود»(5).
وعندما تتراجع العربية في:
• سوق العمل
• المؤسسات الخاصة
• التعليم
• الحياة اليومية
فإنّ الأصلاني يفقد وسيط الوجود الذي يصوغ علاقته بالمكان وبالآخر.
اللغة لا تُنقل بالتلقين، بل بالاستعمال؛ وحين يصبح المجال العام متعدد اللغات، تتعرض العربية لتهميش غير مقصود، مما يضعف قدرة المجتمع على إعادة إنتاج ذاته.
⸻
خامسًا: تفكك الذاكرة – انقطاع السلسلة الاجتماعية
يشير فانون إلى أنّ أخطر أشكال الاغتراب هو فقدان الذاكرة الجماعية التي تمنح الإنسان صورة عن ذاته(6).
وفي الخليج، تشهد الذاكرة تحديات كبيرة حين:
• لا يعرف معظم من يشغلون الفضاء العام تاريخ المكان
• أو لا يحملون رموزه الثقافية
• أو لا يعيشون قيمه وممارساته اليومية
وبذلك تتفكّك السلسلة الاجتماعية التي تربط الأجيال، وتصبح الهوية الأصلانية عرضة للتحوّل إلى «تراث محفوظ» بدلًا من أن تكون ممارسة حيّة.
سادسًا: الغربة الوجودية – المواطن الغريب في عالمه
الغربة هنا ليست سياسية؛ بل غربة وجودية:
أن يعيش الإنسان في وطنه، بينما العالم المعيش حوله لم يعد يعكس ذاكرته.
هذه الغربة تتجلى في:
تراجع حضور المواطن في الشارع
و غياب لغته الأم من التفاعل اليومي
و تغيّر الإيقاع الاجتماعي
كذلك ضمور الرموز الثقافية التقليدية
وايضاً تراجع الشعور بالألفة في المجال العام
هذا الوضع يشبه ما يصفه فانون بـ«التشيؤ»، حين يصبح الإنسان «موضوعًا» داخل عالم لا يعترف بعمقه التاريخي(7).
⸻
سابعًا: المآلات المستقبلية – من «سكان الوطن» إلى «سكان الهامش»
إنّ الخطر الوجودي في الخليج ليس فقدان السكان الأصليين لأراضيهم أو حقوقهم السياسية، بل انحسار نمط الوجود الذي صنع هويتهم.
بمعنى آخر:
• الدولة قد تبقى خليجية،
• لكن العالم المعيش قد لا يبقى كذلك.
وهذا الانفصال يهدد بأن يصبح الأصلاني أقلية بلا عالم ثقافي، تمامًا كما تصف نظريات «الوجود المعلّق» في الأدبيات النقدية.
⸻
ثامنًا: توصيات وجودية وسياسية
ضرورة. إعادة مركزية اللغة العربية
عبر سياسات لغوية واضحة، تجعل العربية لغة المجال العام.
كذلك مراجعة سياسات الاستقدام
للحد من الخلل البنيوي لا لأسباب عنصرية، بل لحماية “العالم المعيش”.
و. تعزيز حضور المواطن في القطاع الخاص
الاقتصاد جزء من الهوية، ومن غاب عنه غاب عن ثقافة الدولة.
كذلك الحفاظ على الذاكرة عبر التعليم والإعلام
بتضمين عناصر الذاكرة في السرديات اليومية لا في الاحتفالات فقط.
بناء توازن بين الانفتاح الاقتصادي والحماية الثقافية
وفق نموذج حضاري لا يعزل الآخر، ولا يذيب الهوية.
خاتمة
تكشف القراءة الوجودية أن الخلل السكاني في الخليج ليس مجرد مسألة عددية، بل سؤال عن معنى الوجود الخليجي.
إنّه تحوّل في العالم المعيش، وفي بنية المكان، وفي شكل الذاكرة، وفي موقع اللغة، وفي قدرة المجتمع على إعادة إنتاج ذاته.
وبذلك، يلتقي الخليج مع مفهوم «لا مستوطن ولا مواطن» في بعده الوجودي:
فالأصلاني ليس مهددًا بالإقصاء السياسي، بل بأن يصبح حاضرًا بلا عالم، ومواطنًا بلا مجال رمزي يعكس ذاته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق