الأحد، 26 سبتمبر 2010

الوعي الحقيقي والوعي الزائف

الوعي الحقيقي والوعي الزائف
عبد العزيز الخاطر
2007 / 10 / 26
هل تحولت علاقاتنا الى ما يشبه العلاقات بين الأشياء ؟ هل أصبح الناس يعتبرون بعضهم البعض موضعاً للتبادل ؟ بعيداً عن العلاقة الإنسانية ومركزيتها ؟ الأدبيات الماركسية أتت على ذكر ذلك وأفرزت مصطلحاً أسمته " التشيؤ " صكه المجري لوكاتش استناداً الى مصطلح ماركس " التسليع " أو توثن السلعة بمعنى تحويلها الى وثن يعُبد . هل أصبحت علاقاتنا نحن الذين لم نخرج بعد من طور المجتمع التقليدي البسيط الى ما يشبه ذلك ؟ نحن الذين لم نتعد بعد مرحلة البداوة سواء الفعلية منها أو الفكرية ! هل نختار وجودنا اليوم أم يختاره الآخرون ؟ هل نحن نحدد علاقاتنا اليوم أو يحددها الآخرون نتيجة هذا " التشيؤ " ؟ ألم تتحول العلاقة الإنسانية وبورصة ارتفاعها وهبوطها وتصبح مرتبطة برقم أو رصيد في البنك إلا فيما ندر ؟ ألم يتبن الواحد منا مواقف تُملى عليه ويقفز الى الشائع من الأقوال دون تمحيص ؟ انه الوجود الزائف كما يراه " هايدغر " لأنه لا يحقق ذاته وانما ينضم الى ذوات الآخرين ! انه الخوف الذى يعيشه إنسان هذا العصر في ظل تحوله الى شيء والى مجرد موضع للتبادل في العلاقة السوقية .
 السؤال الآن ماذا لو نجح العلم في الاستنساخ الى أعلى درجة بحيث يصبح بالإمكان إنتاج بشر لحاجة السوق وحركته فقط وإتلاف الباقي كيف سيصبح مصيرنا نحن الأشياء ؟ هل يحتاجنا السوق ؟ ان أول ميكانيزم دفاع كان الهروب الى المرجعيات الأولى كالقبيلة الطائفة والعشيرة ، تبدو كملاذ كذلك ولكنها سرعان ما تصطدم بطوفان السوق وآلياته وتتحول هي كذلك الى أشياء قابلة للمقايضة والتبادل . لقد امتلك السوق أدوات تدميرية كفيلة بالإتيان عليها لكيلا تقف أمام عملية التبادل والأخذ والقبض اذا لم يكن عن طريق الآخر المغاير فمن داخلها ومن بين عناصرها ونرى ذلك عياناً ، فالصراعات في معظمها طائفية قبلية عشائرية دينية وفي جلها كذلك بينية . فلا غرابة اذن أن يهرب إنسان هذا العصر الى الأجواء البعيدة سواء الأرياف لدى الغير أو الصحراء والبادية كما لدينا لقد أصبح ذلك ضرورة لا مناص منها أن ينشد إنسانيته ويريد بناء ذاته المهدورة أمام مادة تريد تحويله الى جزء لا يتجزأ منها . هناك في الصحراء ؛ الماء يخرج صافياً تكاد تشم فيه رائحة الأرض قبل أن تغزوه الكيماويات ومواد التحلية ، هناك تخرج الشمس في شروقها حانية لطيفة لا تغطيها أدخنة المصانع وغبار المداخن العالية ، هناك تسمع ثغاء الأغنام وخوار البقر قبل أن يصاب بالجنون وتغريد البلابل والطيور قبل أن تصل إليها أنفلونزا الطيور ، الأطفال يولدون في البادية بصراخ عالٍ طبيعي دون أنابيب أو حليب البودرة ، الليل يأتي بكل الحكايات والقصص التي تجعل منه سكناً ليكون النهار القادم كله معاشاً مليئاً بالثقة والنفس وبفعل الخير . لقد كان ذلك واقعاً في عقود قليلة مضت في دولنا الخليجية بالذات ولا يحتاج المرء للخروج الى البادية وأطرافها التي تكاد اليوم أن تختفي كذلك تحت هجوم مدن الحديد والاسمنت ، في ذلك الحين كان كل شيء صافياً حتى المصطلحات كانت واضحة ؛ كانت الخيانة خيانة والرشوة رشوة ولم يتحولا بعد الى شطارة وإكرامية والكذب لم يتحول بعد الى مؤسسة حتى الهزائم لم تنسنا ولم تفقدنا الأمل لأنها لم تكن من الداخل ؛ فالداخل كان صافياً كذلك ، كان الاجتماع حول مذياع البيت لتتبع أخبار الأمة وليس لإخبار البورصة أو الربح الفردي وكان الاستماع الى الأغاني التي ترفع من الروح المعنوية ومن الذائقة السمعية في نفس الوقت حتى العاطفية منها . فإن كان ثمة سرور فإنه للجميع وإن كان ثمة حزن وأسى فالجميع كذلك . ماذا يمكن أن نقول لأطفال وأولاد اليوم بعد كل هذا التشظي والتلوث السمعي والبصري الذى يحط من قدر الإنسان وقيمته هل من وسيلة لحمايتهم من ذلك ؟ والهواء يتسلل من جدران المنازل وستائر غرف النوم حيث يحمل الإسفاف بجميع مواصفاته المادية والمعنوية عبر قنوات العري المادي والمعنوي كذلك ! هل نقول لهم أن عصرنا كان أفضل من عصرهم المعاش ؟ أليس في ذلك نرجسية ! أم نقول لهم أنهم غير محظوظين و هل يملكون لذلك دفعاً ؟ هل كان آباؤنا وأجدادنا يشفقون علينا من رؤية التلفزيون وسماع المذياع لأول مرة في أيامنا الخالية قياساً لعصرهم السابق حيث الحقيقة يمثلها وجود الإنسان فقط حيث لا تكفي صورته أو سماع صوته ؟ ولكن هل ثمة أسوأ من أن يتحول الإنسان الى شيء مجرد شيء أو موضع للتبادل ؟ ثمة فرق بين وجودنا الحقيقي بالأمس ووجودنا الزائف اليوم حيث مشيئة وإرادة القطيع.
 قد لا يستطيع الإنسان عمل الكثير أمام تصاريف الزمن ولكن له كل الحق في التحسر و الألم حين يذهب الزمن بوجوده الحقيقي ويحوله الى شيء مجرد شيء . له الحق كذلك أن يتساءل عن سر اختفاء ذلك الوجود . . . يا لهفاً أين غاب ؟






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق